
يقوم مفهوم التنمية الإنسانية الذي يتبناه برنامج الأمم المتحدة للإنماء على أن "البشر هم الثروة الحقيقية للأمم" وأن التنمية الإنسانية هي "عملية توسيع خيارات البشر". و"الخيارات" تعبير عن مفهوم أرقى، هو "الاستحقاقات". ويعبر عن حق البشر الجوهري في هذه "الخيارات". ومن حيث المبدأ، فإن استحقاقات البشر يمكن أن تكون غير محدودة، وتتغير مع الزمن. ولكن عند أي من مستويات التنمية، فإن الاستحقاقات الثلاثة الأساسية هى "العيش حياة طويلة وصحية، والحصول على المعرفة، وتوافر الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق". ولكن مفهوم التنمية الإنسانية لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى استحقاقات إضافية أخرى، تشمل "الحرية السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وتوافر الفرص للإنتاج والإبداع، والاستمتاع باحترام الذات وضمان حقوق الإنسان".و النظر إلى التنمية من منظور التنمية الإنسانية ليس بجديد ، ففكرة أنه ينبغي الحكم على الترتيبات الاجتماعية بمدى تعزيزها للمنافع الإنسانية ، فكرة تعود على الأقل إلى عهد أرسطو الذي قال " من الواضح أن الثروة ليست هي المنفعة التي نسعى لتحقيقها ، فهي مفيدة فحسب بهدف الحصول على شيء آخر " . وقد دعا إلى التمييز بين الترتيب السياسي الخيّر و الترتيب السياسي السيئ على أساس النجاح أو الفشل في تسهيل قدرات الناس على أن يعيشوا حياة مزدهرة. ففكرة الحياة الإنسانية الأفضل كهدف حقيقي لكل الأنشطة الإنسانية كانت موضوعا متكررا في كتابات معظم الفلاسفة الأوائل .وفى تراثنا العربي خصص إبن خلدون فصلا كاملا في مقدمته لبيان حقيقة الرزق و الكسب وشرحهما و أن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية . و أعتبر أن مكاسب الإنسان المتأتية عن عمله و سعيه تكون له معاشا إن كانت بمقدار الضرورة و الحاجة ، أما إن زادت عن الضرورة و الحاجة فتعتبر رياشا و متمولا . كذلك ميز إبن خلدون بين الكسب الذي تعود منفعته على الإنسان و بين الكسب الذي لا يحصل به منتفع . أما الأول فهو ما ينفق في مصالح الإنسان وحاجاته و يسميه الرزق مقتديا بحديث نبوي شريف " إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت " . و مقتبسا فلسفة المعتزلة الذين اشترطوا في تسمية الكسب رزقا أن يكون مكتسبا بصورة شرعية و لذلك أخرجوا الغصوبات و الحرام كله عن أن يسمى شيء منه رزقا .وربط إبن خلدون الرزق بالعمل الإنساني و أنه لا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب و متمول . بل ربط التقدم الحضاري ( العمران ) بأسره بالأعمال الإنسانية . ونجد كذلك نفس الانشغال في كتابات الرواد الأوائل عن القياس الكمي في الاقتصاد : ويليام بيتى و غريغورى كينج و فرانسوا كويستى و أنطوان لافواسير و جوزيف لاكرانج، و هو من مؤسسى استخدام و حساب الناتج القومي الإجمالي و الناتج المحلى الإجمالي، . و هي أيضا واضحة في كتابات رواد الاقتصاد السياسي : آدم سميث و ديفيد ريكاردو و روبرت مالتس و كارل ماركس و جون ستيوارت ميل .ومفهوم التنمية الإنسانية أوسع من مفاهيم التنمية حتى تلك التي ترتكز على الإنسان. فتنمية الموارد البشرية تؤكد على رأس المال البشرى فقط و تعامل الناس كمدخل من مدخلات عملية التنمية ، و لكن ليس كمنتفعين منها . و يركز نهج الحاجات الأساسية على متطلبات الناس و ليس على خياراتهم . وينظر نهج رفاه الإنسان إلى الناس كمنتفعين ولكن ليس كمشاركين فعالين فى العمليات التى تشكل حياتهم .أما التنمية الإنسانية فهي باشتمالها على جميع هذه الجوانب، تمثل نهجا أكثر شمولا تجاه التنمية.
No comments:
Post a Comment